إيران دفعت الصراع في اليمن للتطور من حرب أهلية سياسية إلى حرب مجتمعية
التعامل مع الحوثيين يوضح بشكل جيد تناقضات الإدارة الأمريكية تجاه النِزَاع
عشت في لبنان بين 2003 و2007 ومنذ ذلك الوقت أدركت أنه «ذاهب نحو الجدار»
التبعية الغذائية في العالم العربي تجاوزت 50% مقارنة بـ10% عام 1960
القضية الفلسطينية تُستخدم كوسيلة من قبل أنظمة تريد إخفاء إخفاقاتها الاقتصادية
الحرب الأوكرانية- الروسية، والنووي الإيراني، وتطورات الصراع اليمني، والتحالفات الجديدة التي تلوح في الأفق إقليماً، ودولياً، وغيرها من الملفات الإقليمية التي تحتاج إلى قراءة متأنية في محاولة لاستشراف المستقبل. فإذا كانت الحرب الأوكرانية تستحوذ على نصيب الأسد من التحليلات السياسية لما لها من انعكاسات على مختلف مناطق العالم، فإن تصاعد استهداف الميليشيات الحوثية لمباني نفطية في السعودية، يفاقم من مخاطر أمن الطاقة العالمي. «الرؤية» التقت مدير الأبحاث في جامعة «ليون 2» بفرنسا، والزميل الزائر في معهد واشنطن، والخبير الجيوسياسي المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، فابريس بالونش، مؤكداً أن الحرب الروسية – الأوكرانية تمثل انتكاسة كبيرة لدول الغرب، وتسببت في خسارة الولايات المتحدة ثقة حلفائها، فضلاً عن ترك تداعيات على دول عربية عدة، من بينها تونس وسوريا ولبنان. وأضاف أن الحوثيين مثلهم مثل حزب الله في لبنان؛ أداة في خدمة القوة الإيرانية، حيث تستخدم لتهديد السعودية، وزعزعة استقرارها، وأن لبنان يعيش بين خيارين؛ إما الحماية الإيرانية، أو الحرب الأهلية، وواضعاً شريطين لتخلّص ليبيا من أزماتها.
كشفت الحرب الروسية-الأوكرانية، بشكل واضح، عن تخلي أغلب دول المنطقة العربية، عن سياسة الاصطفافات ما بين المعسكرين الغربي والشرقي.. كيف تقرؤون ذلك؟
بعد انسحاب الغرب من الشرق الأوسط، وترك سوريا ملعباً لروسيا وإيران، ودخول طهران إلى اليمن عبر الحوثيين، وسيطرتها على العراق بميليشياتها، وأخيراً انسحاب القوات الأمريكية في أفغانستان، يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا انتكاسة جديدة للغربيين في العالم. ومن الطبيعي أن يفقد حلفاء الولايات المتحدة الثقة في إرادتهم للدفاع عنها، في مواجهة عدوانٍ يمكن أن يكونوا ضحايا له أيضاً. لذلك ينبغي فعلاً تنويع تحالفاتها. بالنسبة لدول، مثل الجزائر، حليف استراتيجي قديم للاتحاد السوفيتي، فإن عودة روسيا إلى الساحة الدولية موضع ترحيب كبير، لأنها يمكن أن تعارض مرة أخرى المعسكر الغربي. وبالنسبة للإمارات، والسعودية، وهما دولتان مواليتان لأمريكا دائماً، أعتقد أنهما تنظران إلى روسيا على أنها قوة وسيطة جديدة قادرة على كبح جماح التوسع الإيراني، وهذه هي الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه روسيا، فعندما تدخلت القوات الروسية مباشرة في سوريا، في سبتمبر 2015، توجه نتنياهو على الفور إلى روسيا، وحصل على ضمانات تجاه إيران. ويمكننا أن نرى أن نفتالي بينيت لم يصطف على الإطلاق مع الولايات المتحدة في الأزمة الروسية الأوكرانية.
انعكاسات الحرب على المنطقة
في اعتقادك ما انعكاسات الحرب الأوكرانية على المنطقة العربية حال إطالة أمدها؟
تجاوزت التبعية الغذائية في العالم العربي 50% مقارنة بـ10% في عام 1960. وقد ازدادت بسبب التوسع الحضري، والنمو السكاني، وبالتخلي عن السياسات العامة لدعم الزراعة منذ التسعينيات. فقط دول الخليج حاولت تأمين إمداداتها، من خلال الاستثمار في مزارع كبيرة في شرق أفريقيا. مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، وكانت الدولة تعتمد قبل بدء الصراع بنسبة 61% على روسيا، و23% على أوكرانيا، فيما يخص مشترياتها من الخارج، وسيكون من الصعب عليها العثور على موردين جدد بسعر معقول، على أمل أن يكون المحصول العالمي لعام 2022 جيداً. وفي مصر، كما هو الحال في العديد من الدول العربية، يتم دعم الخبز والدقيق من قبل الدولة، وسيكون من الصعب تمرير أسعار أعلى للقمح، دون التسبب في اضطرابات، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى زيادة قوية في نفقات الميزانية، وسوف يقابله ارتفاع أسعار المواد الهيدروكربونية للدول المصدرة.
ازدواجية أوروبية
فيما تتوالى الإدانات الأوروبية للتصعيد العسكري الروسي، تفجرت قبل أيام قضية تورط دول أوروبية في بيع معدات عسكرية لروسيا.. كيف تفسرون هذه الازدواجية في التعاطي الأوروبي؟
خلال الفترة ما بين 2015-2020، باع الاتحاد الأوروبي 346 مليون يورو من المعدات العسكرية إلى روسيا، وفرنسا وحدها باعت إليها ما قيمته 152 مليوناً، والسوق الروسية تمثل 0.3% فقط من مبيعات الأسلحة الفرنسية في جميع أنحاء العالم، ويتعلق الأمر في الأساس بعقود تسليح لمعدات صغيرة (أجهزة استشعار تعمل بالأشعة تحت الحمراء، ونظام ملاحة)، تم التوقيع عليها قبل إعلان الحظر الأوروبي. وعلى المستوى الأوروبي، انخفضت مبيعات المعدات العسكرية إلى روسيا من 130 مليون يورو في عام 2014 (قبل الحظر)، إلى 2 مليون فقط في عام 2020. وفي عام 2015، ألغت فرنسا تسليم حاملتي طائرات هليكوبتر من طراز ميسترال إلى روسيا، وهو عقد قيمته أكثر من مليارَيْ يورو، وتعيّن دفع تعويض قدره مليار يورو إلى روسيا مقابل ذلك. وفي النهاية، تم بيع كلتا السفينتين بسعر مخفّض إلى مصر، ولذلك يمكننا القول إن الحظر الأوروبي على تصدير المعدات العسكرية إلى روسيا محترم، وليس لدينا أي خلاف حول هذا الموضوع داخل الاتحاد الأوروبي.
أداة في خدمة القوة الإيرانية
ميليشيات الحوثي تفاقم أوضاع الطاقة عالمياً باستهدافها المتكرر لمنشآت أرامكو في السعودية.. لماذا التعاطي الغربي مع هذه الهجمات الإرهابية أقل من مستوى الحدث؟
الحوثيون مثلهم مثل حزب الله في لبنان؛ أداة في خدمة القوة الإيرانية، حيث تستخدم إيران الحوثيين لتهديد السعودية، وزعزعة استقرارها. في عام 2014، كان الهدف الأساسي لإيران هو إجبار المملكة العربية السعودية على الابتعاد عن الصراع السوري، والتوقف عن دعم الثورة السورية. وفي خطوة ثانية، زودت إيران الحوثيين بطائرات مسيرة، وصواريخ باليستية، قادرة على ضرب البنية التحتية للنفط والغاز في شبه الجزيرة العربية، والمطارات، ومراكز المدن، علماً بأنه في حال شلّت قدرات السعودية على تصدير النفط، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع حاد في الأسعار، بما يعود بالفائدة على إيران. وفي الوقت الذي يحاول فيه الغربيون الاستغناء عن الهيدروكربونات الروسية، فإن تقليص الصادرات السعودية سيكون كارثة. وفي ظل هذه الظروف، كيف تريدون أن يشارك الحوثيون بجدية في حوار يمني يمني؟ مصلحة إيران في الحفاظ على معقل حوثي يطلق الصواريخ على السعودية والإمارات. وإيران دفعت الصراع في اليمن للتطور من حرب أهلية سياسية إلى حرب مجتمعية، وهي الحرب الوحيدة القادرة على تقسيم البلاد بشكل دائم، والسماح بالحفاظ على السيطرة الإيرانية على اليمن الشمالي القديم.
تناقضات الإدارة الأمريكية
إدارة الرئيس الأمريكي، جون بايدن، تراجعت عن تصنيف ميليشيات الحوثي منظمة إرهابية، كما أن الغرب لديهم مواقف توصف بـ «المترددة» بشأن مواجهة إرهاب ميلشيات الحوثي في اليمن.. كيف يمكن قراءة ذلك؟
التعامل مع الحوثيين يوضح بشكل جيد تناقضات الإدارة الأمريكية تجاه حل النِزَاع، إذ تتردد بين الاعتبارات الإنسانية، والدفاع عن المصالح الاستراتيجية الحيوية. الحوثيون يهددون أمن مضيق باب المندب، أحد الطرق البحرية الرئيسية في العالم، لكننا رأينا سابقاً أن الحوثيين هم أداة في يد إيران، التي تهدد استقرار شبه الجزيرة العربية. يمكننا أن نفهم أن الإمارات، والسعودية، غاضبتان بالتالي من هذه الترددات الأمريكية الجديدة فيما يتعلق بالحوثيين، ونأمل أن تجعل الأزمة في أوكرانيا الغربيين يعون ضرورة القتال على جميع الجبهات ضد المحور الأوراسي. من المؤكد أن هذا يسبب خسائر في صفوف المدنيين، ويقوّض الضمير الإنساني الجيد، لكن ليس لدينا خيار آخر. المعسكر المقابل لا يكلف نفسه عناء هذه الاعتبارات، ويتعمد استهداف المدنيين لإخضاع السكان. وإدارة جون بايدن متأثرة بشكل كبير بالمثالية في السياسة الخارجية، بينما سياسة الواقعية عادت بقوة منذ عقد من الزمن.
أزمات لبنان
تتخبط لبنان وسط العديد من الأزمات.. ما هي المسارات التي يجب أن تُسلَك لإخراج لبنان من النفق المظلم؟
عشت في لبنان بين عامي 2003 و2007، ومنذ ذلك الوقت أدركت أن لبنان ذاهب نحو الجدار. ففي عام 2005، حرر لبنان نفسه من الوصاية السورية، بفضل ضغوط من فرنسا والولايات المتحدة، لكن حرب صيف 2006 أعادت قوة حزب الله في لبنان. منذ عام 2017، ومع تخفيف الدعم النقدي الدولي بدأ النظام المالي اللبناني، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ينحرف عن مساره، وفقد المغتربون اللبنانيون الثقة في البنوك، وقلّصوا ودائعهم أيضاً، رغم ارتفاع أسعار الفائدة.
اللبنانيون عاشوا بما يتجاوز إمكانياتهم منذ نهاية الحرب الأهلية، مقتنعين بأن لبنان سيصبح مرة أخرى سويسرا الشرق الأوسط. ومع ذلك، هذا العصر ولّى، وسويسرا الشرق الأوسط الآن هي دولة الإمارات العربية المتحدة، ولم تعد بيروت بوابة الشرق الأوسط، ولا المركز الإقليمي، فقد أخذت دبي وجبل علي المكان. وكان يجب أن يكون للبنان طموحات أكثر تواضعاً بعد الحرب، حتى يعيد بناء نفسه على أسس ملموسة، وليس على سراب. هو يدفع الثمن اليوم.
كيف يمكنه الخروج من النفق اليوم؟
أنا لست متفائلاً، لدى لبنان الخيار بين الحماية الإيرانية، أو الحرب الأهلية. وإذا لم تنفجر هذه الأخيرة، فذلك بلا شك لأن خصوم حزب الله لا يجرؤون على مهاجمته، كما أنهم لن يحصلوا على دعم كبير من الغرب، كما يتضح من النكسات في أفغانستان وأوكرانيا.
بعيداً عن لبنان.. ما الذي تحتاجه ليبيا لعودة الاستقرار السياسي والحياة الطبيعية إلى البلاد؟
ليبيا مثل لبنان، وسوريا، واليمن، دولة عالقة في أزمة دولية، وبالتالي فإن نتيجتها بعيدة عن الليبيين، في الوضع الأمثل، تحتاج ليبيا أولاً إلى التخلص من القوات التركية والروسية، التي ليست موجودة لاستعادة سيادة البلاد، ولكن لتقاسمها. بعد ذلك، سيتعيّن على الشرق (برقة)، والغرب (طرابلس)، في ليبيا إيجاد أرضية مشتركة، والتي يمكن أن تمرّ عبر حلّ فيدرالي، أو حتى كونفدرالي، عندها فقط يمكننا النظر في إجراء انتخابات داخل هذين الكيانين. والإشراف الدولي ضروري، ويمكن أن يقع على عاتق جامعة الدول العربية بتفويض من الأمم المتحدة، لكن هذا لا يزال حلاً طوباوياً، لأنني لا أستطيع أن أتخيل مغادرة روسيا وتركيا لليبيا طواعية، والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية مهمة جداً لذلك.
إسرائيل أمر واقع
السنوات الأخيرة شهدت تسارع اتفاقيات السلام بين دول عربية وإسرائيل.. في اعتقادك هل أصبح رفض دول عربية التعامل مع إسرائيل لم يُعد له معنى في السياق الحالي؟
رفضُ التعامل مع إسرائيل لا معنى له في الواقع. الدولة اليهودية موجودة منذ ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، ولن تختفي مهما كان تفكير إيران وحلفائها. والقضية الفلسطينية تُستخدم كوسيلة من قبل أنظمة تريد إخفاء إخفاقاتها الاقتصادية. عندما كنت أعيش في سوريا في تسعينيات القرن الماضي، كان كل شيء خطأ، الحالة السيئة لشبكة الطرق، وتدني رواتب الموظفين، وتأخر القطارات، وعدم وجود سياح، والجفاف، وفي النهاية يتم تعليقه على شماعة إسرائيل، لقد وجدت نفس الحجة في كوبا، حيث تم وضع كل شيء على أساس خطأ الحصار الأمريكي، بينما يجب التساؤل عن ويلات النظام الشيوعي في تخلف الجزيرة،
والأنظمة التي ترفض التطبيع مع إسرائيل هي إذن تلك التي تحتاج إلى كبش فداء، لتبرير فشلها لشعبها. إنهم يسخرون من القضية الفلسطينية، ويساهمون بتعنتهم بالدعوة إلى «تدمير إسرائيل» في الحفاظ على مناخ الحرب في الشرق الأوسط. وفي غضون ذلك، تتأخر المنطقة عن بقية العالم بدلاً من الاستفادة من التكامل الاقتصادي، الذي تقدمه لها إسرائيل، وهذا يمكن أن يساعدها في سد العجز الهائل في البحث والتطوير، وهو شرط أساسي للحفاظ على مرتبتها في الاقتصاد العالمي. ويجب علينا أيضاً أن نتصدى لتحدي الاحتباس الحراري، الذي يؤثر تأثيراً عميقاً في العالم العربي. وفي المقابل، يمكن للأخير أن يساعد إسرائيل على تطبيق حلّ الدولتين، الحل الواقعي الوحيد.
أخيراً.. هل يمكن أن تشهد المنطقة وحدة عربية في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية؟
منذ نهاية الحرب الباردة، لم تكن الدول العربية منقسمة كما هي اليوم، وهذا يشير إلى عودة الصراع العالمي بين العالم الغربي (أمريكا الشمالية وأوروبا)، والكتلة الأوروبية الآسيوية الناشئة (روسيا، والصين، وإيران) مع تركيا التي تتأرجح بين الاثنين. وتفاقمت الخصومات بين الدول العربية من خلال هذه العودة الخاصة بالصراعات العالمية. وإذا لم تكن تريد أن تكون ساحة مواجهة بين هاتين الكتلتين، فعلى الدول العربية أن تتحد لمقاومة هذه الضغوط، وحلّ أزماتها المختلفة داخلياً، لا سيما اليمن وسوريا، وليبيا. وبدت لي عملية التكامل الإقليمي، من خلال اتفاقية التجارة الحرة العربية الكبرى (غافتا)، التي تم إطلاقها قبل «الربيع العربي» داخل دول مجلس التعاون الخليجي، ثم امتدت إلى الدول العربية المجاورة، حلاً ممتازاً لحل النزاعات الداخلية.