في يوم السبت بتاريخ 2 أيلول 2023، اندلعت أعمال شغب عنيفة في مدينة كركوك في العراق، ما أسفر عن مقتل أربعة أفراد وجميعهم من أصول كردية. وكان عودة مبنى المدينة إلى حضن الحزب الديمقراطي الكردستاني ذريعة لاندلاع الاحتجاجات العرقية، حيث نتج عنها اشتباكات بين العرب والتركمان من جهة والكرد من جهة أخرى.
تعكس هذه الحادثة التوترات القومية الموجودة في العراق، والتي تستغلها بالطبع الحكومة العراقية وخصوصاً حلفاؤها الإيرانيين. هل يمكننا الربط بين هذا الصراع والانتفاضة في دير الزور الواقعة في سوريا؟ فقد بدأت عشائر عربية من وادي الفرات بحملة عسكرية لطرد قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الكرد بشكل رئيسي.
تعتبر كركوك مدينة متعددة الأعراق وتقع ضمن المناطق المتنازع عليها بين حكومة إقليم كردستان والعراق. وتم طرد الإدارة الكردية وقوات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني من قبل مليشيات شيعية موالية لإيران (الحشد الشعبي) في تشرين الأول من عام 2017 التي تسيطر الآن على المدينة، وتعتمد بشكل خاص على الأقلية التركمانية الشيعية وبعض العشائر العربية السنية، وبالاستناد إلى سلطتهم الجديدة، يحاولون الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الكردية، مما يجبر الكرد على مغادرة المنطقة.
في دير الزور، سكانها من العرب السنة حصراً ولكنهم مقسَّمون إلى قبائل مختلفة منافسة لبعضها البعض، قسم منهم يدعم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ويشاركون بشكلٍ كبير مع قوات سوريا الديمقراطية، بينما يظل البعض الآخر معادياً ويحتفظ بتعاطف قوي اتجاه “داعش”.
يبدو أننا في سياقين مختلفين، لكنهما في الواقع متشابهين جداً، حيث ينبع كلاهما من مشاعر معادية للكرد في العراق وسوريا على حد سواء.
تشعر القبائل العربية في دير الزور بالاستياء من كونهم جزءاً من كيان يقوده الكرد، ويلومونهم على جميع المشاكل في المنطقة، ويتهمونهم بأخذ نفطهم وإبقائهم في حالة من الفقر، كما شهدت شخصياً خلال رحلة قمت بها مؤخراً إلى المنطقة. في العراق، جمعت شهادات مماثلة ضد الكرد، حيث يتهمونهم بأمور عديدة كاحتكار الميزانية العراقية وسرقة المحروقات وعرقلة إعادة إعمار الموصل، ويبدو بأن اللجوء إلى إسرائيل لتحويل غضب عامة الشعب عن السلطات لم يعد فعالاً، حيث أصبح الكرد هم الرموز الجدد، فالنجاح الاقتصادي الرائع لإقليم كردستان، والأمان الذي يحتفظ به، وجودة الخدمات العامة تساهم بشكل كبير في هذا العداء.
يتم استغلال المشاعر المعادية للكرد من قبل قادة عرب في دمشق وبغداد اللذين يسعون للقضاء على الكيانين الكرديين. ومن المهم أن نتذكر أن إقليم كردستان وإدارة شمال وشرق سوريا قد تأسسا بعد انهيار هذه الدول المركزية خلال الغزو الأمريكي في العراق والحرب الأهلية السورية. وضعف التأثير الغربي في الشرق الأوسط وتعزيز النظامين السوري والعراقي اللذين تدعمهما إيران، يثيران تساؤلات حول وجود إقليم كردستان وإدارة شمال وشرق سوريا، وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار استراتيجية تركيا الجديدة العثمانية، التي لا تشكل تهديداً حالياً لإقليم كردستان ولكنّها تستهدف بشكلٍ واضح إدارة شمال وشرق سوريا. وفي هذا السياق الجيوسياسي، يجب أن نحلل أحداث كركوك ودير الزور الأخيرة.
يتم تسليط الضوء أيضاً على الأهمية الاستراتيجية للمنطقتين بسبب وجود النفط، حيث تشكل كركوك 15% من إنتاج العراق، وكذلك دير الزور 70% من احتياطي النفط السوري. وسمحت الموارد في كركوك لحكومة إقليم كردستان بأن تصبح أقل اعتماداً على الميزانية المخصصة من قبل بغداد بموجب دستور عام 2005، وهذا هو السبب في أن الميليشيات الشيعية الموالية لإيران سيطرت بسرعة على المنطقة بعد استفتاء استقلال إقليم كردستان في عام 2017، والمواد النفطية في دير الزور هي رهان مهم لإدارة شمال وشرق سوريا في التفاوض مع دمشق والأهم من ذلك، لضمان إمداداتها بالطاقة وبدون هذه الموارد سيتعرض الاستقلال الفعلي لشمال وشرق سوريا للتهديد بشكل كبير.
إن دمشق وطهران لديهما مصلحة واضحة في دعم انتفاضة القبائل العربية لإعادة هذه المنطقة ونفطها إلى سوريا المنكوبة.
ومع ذلك، قد لا يكون لديهما بالضرورة الوسائل لتحقيق هذا الطموح، فقد لا ترغب القبائل المتمردة في العودة تحت سيطرة بشار الأسد. إنهم يتخيلون وبسذاجة أنه بإمكانهم تأسيس مملكة عربية صغيرة وبالتالي الاستفادة من ثروة النفط، ولذا فهم يحتاجون إلى حماية خارجية.
ومع ذلك، لا تبدي الولايات المتحدة استعدادها للاستثمار في مثل هذه المغامرة، وتركيا بعيدة جداً للاهتمام الكبير بدير الزور، لذا يمكن أن يتكرر سيناريو كركوك الذي حدث عام 2017 في دير الزور (الغزو الذي تقوده مليشيات شيعية عراقية).
ستقوي إيران حليفتها السورية بهذه الطريقة وتدفع القوات الأمريكية للمغادرة، مما يوسع ممرها الاستراتيجي بين طهران وبيروت. ومع ذلك، لإتمام بناء هذا الهلال الشيعي الشهير الذي بدأ بسقوط صدام حسين في عام 2003، يجب عليها التخلص من المناطق الكردية الذاتية المؤيّدة للغرب.
في العراق، تواجه حكومة إقليم كردستان ضغوطات من الحكومة الشيعية الموالية لإيران في بغداد التي تمتنع عن تقديم حصتها من الميزانية وتعيق صادراتها النفطية عبر تركيا مما يحرمها من الموارد المالية.
من الصعب عدم الاعتقاد بشأن قضية كركوك بأنّها بداية لتدخل إيراني موالٍ ضد إقليم كردستان إذا لم يستجب الأخير لمطالب إيران بتسليم المجموعات الكردية المعارضة الإيرانية الموجودة على أراضيها والسماح للجيش العراقي بالسيطرة على حدودها، حيث تنتهي المهلة الإيرانية في 19 أيلول.
في سوريا، تملك إيران وسائل أقل ولكنها تعتمد على تهديد تركي لإعادة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ووضعها تحت سيطرة دمشق بينما تظل قوات سوريا الديمقراطية قادرة على إيقاف هجوم من قبل مليشيات عربية موالية لتركيا مجهزة بأسلحة خفيفة، ولكنّها لن تكون قادرة على صدها لهجومٍ منسّق بدعمٍ جوي ومدفعي تركي كما حدث في تشرين الأول عام 2019.
تهدد الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية الحكم الذاتي الكردي بتدخلات عسكرية من شأنها أن تكون قاتلة بالنسبة له ولكن يصعب تنفيذها حالياً بسبب معارضة الولايات المتحدة، وفي انتظار رئيس أميركي جديد ليقرر سحب القوات من المنطقة، وفي الوقت نفسه تعمل الإمبراطوريتان على زعزعة استقرارهما، واحدة في سوريا والأخرى في العراق، باستخدام وسائل مختلفة كالحصار الاقتصادي وحبس المياه والقصف المكرر ودعم الجماعات المتمردة والتصريحات العدائية وغيرها.
وتؤدي هذه التكتيكات إلى خلق جو من انعدام الأمن الذي يضر بالاقتصاد. والهدف هو إبعاد القوى الفاعلة وزرع الانقسامات السياسية والتحريض على الثورات مما يسهّل توجيه الضّربة الحاسمة في وقت لاحق.
كتبه فابريس بالانش لمركز الأبحاث الفرنسية حول العراق (CFRI) وترجمته نورث برس